التخاطُب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سُنَّةُ الأحباب في سَتْر المحابِّ؛ فالقرآنُ- وإنْ كان المقصودُ منه الإيضاحَ والبيانَ- ففيه تلويح وتصريح، ومُفَصَّلٌ ومُجْمَلٌ، قال قائلهم:أبكي إلى الشرق إنْ كانت منازْلُكم *** مما يلي الغربَ خوفَ القيل والقالِويقال وقفت فهُومُ الخَلْق عن الوقوف على أسراره فيما خاطب به حبيبه- صلى الله عليه وسلم-، فهم تعبدوا به وآمنوا به على الجملة أفرد الحبيبَ بفهمه، فهو سِرُّ الحبيب عليه السلام بحيث لا يطلع عليه الرقيب، يقول قائلهم:بين المحيين سِرُّ ليس يُفْشيه *** قولٌ ولا قلم للخْلق يحكيهوفي إنزال هذه الحروف المقطعة إشارة: وهي أنَّ منْ كان بالعقل والصحو استنبط من اللفظ اليسير كثيراً من المعاني، ومن كان بالغيبة والمحو يسمع الكثير فلا يفهم منه اليسير؛ ذاك لكمال عقله وهذا لتمام وَصْلِه؛ فأنزل اللَّهُ هذه الحروف التي لا سبيلَ إلى الوقوف على معانيها، ليكون للأحباب فُرْجَةٌ حينما لا يقفون على معانيها بِعَدَم السبيل إليها فلا تتوجه عليهم مُطَالَبةٌ بالفهم، وكان ذلك لائقاً بأحوالهم إذا كانوا مستغرِقين في عين الجَمْع، ولذا قيل: استراح من العقل له.وقوله تعالى: {تِلْكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خَبَرُ الوعد الذي وعدناك.وقيل هذا تعريفنا: إليك بالتخصيص، وأفرادُنا لك بالتقريب- قد حقَّقْناه لكَ؛ فهذه الحروف بيانٌ للإنجاز ولتحقيق الموعود.والإشارة من {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} هاهنا إلى حُكْمِه السابق له بأَنْ يُرَقِّيَه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيرُه، وقد قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] أي حين كلَّمنا موسى عليه السلام، وأخبرناه بعلوِّ قَدْرِك، ولم تكن حاضراً، وأخبرناه بأننا نُبَلِّغُك هذا المقامَ الذي أنت فيه الآن. وكذلك كلُّ مَنْ أوحينا إليه ذَكَرْنَا له قِصَتَكَ، وشَرَحْنَا له خِلقَتك، فالآنَ وقتُ تحقيق ما أخبرنا به، وفي معناه أنشدوا:سُقْياً لمعهدِكَ الذي لو لم يكن *** ما كان قلبي للصبابة معهداقال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الْزَّبُورِ مِن بَعْدِ الْذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] يعني بعد التوراة {أَنَّ اَلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبادِىَ الْصَّالِحُونَ} يعني أمة محمد.